ئاكار

ئاكار
مجلة ئاكار

الثلاثاء، 21 أبريل 2015


 

 جريمة الأتجار بالفتيات الكرديات ضمن جرائم الأنفال

 ( مأخوذة من جريدة الاتحاد)

زهير كاظم عبود

تعد جريمة الاتجار بالنساء أو بالصغار أو بالرقيق جريمة من الجرائم التي تعاقب عليها كل القوانين الجزائية في جميع الدول، وسواء تم الفعل داخل أو خارج العراق، فأن الجريمة معاقب عليها قانوناً، ويشملها نطاق الأختصاص الأقليمي أذا ارتكبت في العراق أو أذا تحققت نتيجتها، وفي جميع الأحوال يسري القانون على كل من ساهم في جريمة مثل هذه وقعت كلها أو بعضها في العراق ولو كانت مساهمته خارج العراق سواء كان فاعلاً أو شريكاً ( المادة 6 عقوبات عراقي).

كما يمكن شمولها بأعتبارها من جرائم الأختصاص الشامل التي نص عليها قانون العقوبات أذا ارتكبت خارج العراق ووجد المتهم في العراق بعد ارتكابه الجريمة، وقد أطلق فقهاء القانون على الأختصاص الشامل مبدأ عالمية القانون الجنائي أو الصلاحية الشاملة، ويمنح هذا المبدأ مساحة واسعة للتطبيق على مرتكبي هذه الجرائم بصرف النظر عن مكان الأقليم الذي ارتكبت الجريمة عليه أو أيا كانت جنسية الفاعل، أذ لايكون والحالة هذه أي اعتبار لمكان الجريمة أو جنسية المتهم، ومن الجدير بالذكر أن قانون العقوبات العراقي أخذ بمبدأ شمولية القانون الجنائي وتطبيقه على تلك الجرائم.


ويتم أجراء التحقيقات مع المتهم في جريمة الاتجار بالنساء أو بالصغار أو بالرقيق وإخضاعه لاختصاص المحاكم الجنائية سواء كان المتهم فاعلاً أصلياً أو شريكاً في ارتكاب الجريمة.

وضمن حملات الأنفال التي شنتها السلطة بأمر من المتهم صدام ضد أبناء الشعب الكردي في كردستان العراق، ظهرت حالة إجرامية غريبة على المجتمع العراقي، عززها كتاب رسمي برقم 1101 وبتاريخ 10/12/1989 (سري وعلى الفور) صادر من مديرية مخابرات محافظة التأميم (كركوك) موجه الى مديرية المخابرات العامة (والتي كان أسمها رئاسة جهاز المخابرات في عهد برزان ثم ابدل الى أسم مديرية المخابرات رسمياً بعد اقصاء برزان)، وموضوع الكتاب إجراءات، وتقليباً وتدقيقاً للكلمات الواردة في الكتاب المذكور حيث استهل الكتاب بتعبير (بعد الأيعاز المباشر من لدن القيادة السياسية) وهذا التعبير لايمكن إن يرد عرضياً أو اعتباطاً مالم تتلق مديرية المخابرات التعليمات لتنفيذ الفعل المذكور بالكتاب، حيث أن الأجراءات تأتي ليس أجتهاداً وأنما تنفيذاً لأوامر وهي ما أكدتها الجملة الثانية من الكتاب اعلاه، حيث يبدو إن الأمر كما يرد ضمن حيثيات الكتاب السري، تتلخص في القيام حسب الأوامر بأرسال مجموعة من الفتيات اللواتي تم حجزهن ضمن عمليات الانفال الأولى والثانية، الى ملاهي ونوادي الليل في جمهورية مصر العربية، وحسب طلب القيادة وتضمن الكتاب قائمة بأسماء تلك الفتيات وأعمارهن.

وكانت الأمم المتحدة قد اتفقت طبقاً للمادة 27 وانسجاماً مع ألاتفاقية المؤرخة في 9/آذار /1927 تعديل تلك الأتفاقية بالبروتوكول المحرر في نيويورك في 7/كانون الأول /1953 والتي قضت بضرورة منع أي عمل من أعمال الرق وتجارة الرقيق، كما كانت الجمعية العامة قد أقرت بقرارها 317 في 2 كانون الأول 1949 اتفاقية حظر الاتجار بالأشخاص واستغلال دعارة الغير وحرمت الاتجار بالنساء والأطفال والرقيق الأبيض.

أن هذا التعهد الإنساني لم يأت اعتباطاً، وانما كان نتيجة للمعاناة الإنسانية لما تقوم به بعض الجهات والدول من استباحة لإنسانية الإنسان واستغلالها أبشع استغلال، ولهذا جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليؤكد على كرامة الإنسان والحقوق المتساوية للبشر، وأن تجاهل هذه الحقوق واحتقارها يؤدي الى ظهور بربرية الضمير الإنساني، فقد نشرت الجمعية العامة في العام 1948 هذا الإعلان العالمي الذي اعتبرته العديد من الدول منهجاً للعمل تهتدي به في علاقاتها وتلتزم به في اتفاقياتها وقوانينها.

ومابين العام 1948 وحتى 1989 يكون قد أنقضى واحد وأربعون عاما، أندثر بها الرق والاتجار بالنساء، وأصبحت للأمم والشعوب أعراف وتقاليد عريقة تؤكد كرامة الإنسان وحرمة جسده واعتباراته، صارت للأمم تقاليد عافت بموجبها أي شكل من أشكال استغلال الجسد البشري، وأصبح البغاء والدعارة نمطاً رخيصاً من أنماط الأستغلال البشري، وتجارة بائسة ومنحطة، لابل صار الالتزام بحقوق الإنسان معياراً لمقياس مدى تمدن وتحضر تلك الدولة أو هذه من الدول.

ولعل القيم العراقية والأعراف التي يتمسك بها المجتمع العراقي بكل أطيافه ومكوناته تشكل العمود الأساس في الحياة العراقية، بدليل إن العديد من النصوص القانونية ما ينسجم ويتلاءم مع الأعراف والقيم العراقية، كما أن قيم الشرف والكرامة من القيم التي توارثها العراقي وحرص على انسجامها مع تطور العصر، ومن هذا الجانب يحرص أهل العراق على تلك القيم مهما بلغت درجات تفاوتهم الاجتماعي والطبقي.

وكما يفترض بأن السلطة وهي سلطة الدولة على المجتمع والتي تعني انعكاس لروابط الطبقات الاجتماعية، وتكون هذه السلطة معبراً عن طبيعة المجموعة الحاكمة، ومهما بلغت الأساليب التي تتبعها في سبيل أجبار جميع فئات المجتمع على قبولها والرضوخ لرغباتها، سواء كانت منتخبة ومعبرة عن إرادة الناخبين بالتفويض، أو متسلطة بالرغم منهم، فأنها في جميع الأحوال وكما يفترض الواقع والقيم العراقية لن تنزل الى الحضيض في إتباع أساليب خسيسة تتنافر وتتناقض مع قيم مجتمعها.

ومهما بلغ حجم الجريمة المنظمة في عمليات الأنفال التي يحاكم بها المتهم صدام وعدد من أعوانه ، ممن اشتركوا معه وعاونوه ونفذوا قراراته وسهلوا له الجريمة، في سبيل إبادة أكبر عدد ممكن من المدنيين الكرد، ومهما تنوعت الوسائل التي تعددت بين استعمال الأسلحة الكيمياوية المحرمة شرعاً ودولياً، أو عمليات الإعدام المنظم بالرصاص، بحملات أعدام منظم لمجاميع مدنية مختلطة الأعمار والأجناس جميعهم من الكرد، تتم حملات التصفية بالأعدام رمياً بالرصاص من قبل وحدات من الجيش (قوات الحرس الجمهوري وقوات الأمن الخاص وبعض الفيالق المكلفة بالإبادة) أو عمليات دفن الأحياء بالتراب، أو إبعادهم الى المنافي الصحراوية، أو الاغتصاب والاعتداء على شرف الفتيات الأسيرات تحت رحمة الذئاب البشرية ممن وردت أسماؤهم في شهادات بعض المشتكيات، فأن الأمر يدعو للاستغراب والعجب حين نطالع الوثيقة التي أبرزها أحد المشتكين، معلناً أن شقيقته من بين الأسماء التي قام جهاز المخابرات العراقي تنفيذاً لرغبة القائد الأوحد للعراق، والتي أرسلت الى جمهورية مصر العربية تحت أي زعم أو مسمى، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم لم يعرف مصير شقيقته ولا أثراً لها.

فأذا صحت العملية، يتوجب علينا أن نجد التوصيف القانوني للفعل الذي قامت به أجهزة المخابرات تنفيذاً لأمر المتهم صدام، كما يستوجب الأمر أن يكون مدير جهاز المخابرات ومدير جهاز مخابرات التأميم حينها مسؤولين مسؤولية مباشرة عن تنفيذ هذه الجريمة الإنسانية ، ويستوجب الأمر إخضاعهم للتحقيق الابتدائي والقضائي أمام سلطات التحقيق.

كما ينبغي إن تتم مفاتحة جمهورية مصر العربية لمعرفة مصير تلك الفتيات، وما أذا كانت من بينهن من لم تزل موجودة على قيد الحياة أم لا في الوقت الحاضر؟

وفي حال عدم صحة تلك العملية (وكما عهدنا الأساليب والطرق التي تقوم المخابرات العراقية سلوكها واعتمادها في مثل تلك الحالات)، يتعين على المتهم صدام ومدير جهاز المخابرات ومدير المخابرات في التأميم أن يبينوا مصير تلك الأسماء، بالنظر لكون المعتقلات المذكورات في تلك الفترة تحت رحمة وقبضة السلطة، مما يجعل أمر مصيرهن مرهون بأمر المتهم صدام أو مدير المخابرات.

أن الجرائم ضد الإنسانية تعني القتل العمد وجرائم الإبادة وجرائم الاسترقاق وأبعاد السكان أو النقل القسري للسكان والسجن أو الحرمان الشديد على أي نحو أخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي.

والاسترقاق بموجب القانون يعني ممارسة أي من أو جميع السلطات المترتبة على حق الملكية على شخص ما، بما في ذلك ممارسة هذه السلطات في سبيل الاتجار بالأشخاص ولاسيما الأطفال والنساء.

كما أن جريمة الإبادة الجماعية تعني وطبقاً للاتفاقية الدولية الخاصة بمنع جريمة الإبادة الجماعية المعاقب عليها والمؤرخة في 9 / كانون الأول /1948 والمصادق عليها من قبل العراق في 20 / كانون الثاني / 1959، فأن الإبادة الجماعية تعني قتل أفراد من الجماعة وإلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد من الجماعة، وإخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها أهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً، وفرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة، ونقل أطفال من الجماعة عنوة الى جماعة أخرى، كل هذا بقصد أهلاك جماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية أهلاكاً كلياً أو جزئياً.

مما تقدم يتضح أن جريمة إرسال الفتيات الكرديات الى جمهورية مصر وهن في حالة إذعان ، لايتم الأمر وفق رغبتهن أو موافقتهن يشكل جريمة مزدوجة تنطبق عليها معايير جريمة الإبادة الجماعية والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.

وهي جريمة من نوع خاص لم تقدم عليها سلطة من السلطات، ولم يتدن خلق حاكم في التأريخ ليقم بإهداء بنات شعبه الى منطقة أخرى للعمل في ملاهيها الليلية، وهن لسن فنانات ولا يتمتعن بأية مواهب فنية ليتم استثمارها، وانما جميعهن فلاحات قرويات من أرياف كردستان العراق، فأن صح الفعل فأن ضمير الحاكم الممسوح يعبر عن حالة التدني والانحطاط التي وصل إليها، وان لم تصح فأن جريمة قتل هذه الأسماء البريئة وتلويث سمعتهن وتلويع أهاليهم جريمة خسيسة أخرى تسجل في سجل الجرائم التي تتم محاكمة الطاغية ومن يقوم بمساعدته في أنجاز جرائمه.

أن من بين الأسماء ممن بلغت 12 سنة و15 سنة وبالتالي فهن قاصرات لاحول لهن، ولعل التوسع في التحقيق في هذه القضية المهمة والفريدة في التأريخ العراق سيفتح ملفات أخرى ويكشف طرق أخرى أتبعتها أجهزة المخابرات العراقية في زمن صدام، والتي كانت متفرغة لمثل هذه القضايا وتلفيق الأسباب والمبررات لأرتكاب مثل تلك الأفعال الجنائية.

وإذا كانت الجريمة ظاهرة أجتماعية تظهر في المجتمع عند بلوغه مرحلة معينة وتنعدم بأنعدام ظروفها المادية التي أدت الى وجودها، وأن تبلغ من الخطورة بحيث تهدد العلاقات الاجتماعية مما يستوجب أيقاع العقاب على الجاني، فأن الخطورة الأجتماعية المتوفرة في هذه القضية تهدد القيم والأعراف والتقاليد العراقية قبل إن تهدد السلوك الأنساني، لأن قيام المتهم صدام بأستغلال قوة السلطة وأمكانياتها وأدواتها التنفيذية لأرتكاب مثل هذا الفعل الخسيس يشكل خطراً وطنياً وإنسانيا، والخطورة هنا تمثل أخطر العلامات المادية للجريمة.

وتتشكل تلك الجريمة من أدوار عديدة تبدأ عند دور القبض على تلك العوائل دون تهمة ودون ارتكاب جريمة حسب تعليمات الأنفال، ومن ثم تفريق تلك العوائل حسب فئات عمرية حددها حصراً (المتهم صدام) بأعتباره يمثل تعبير القيادة السياسية في العراق كما يعرفه أهل العراق، أذ لايوجد أي دور حقيقي وفعلي لما يسمى بمجلس قيادة الثورة أو لمجلس الوزراء، وبالتالي قيام تلك الأجهزة أما بنفي وأبعاد تلك العوائل أو قتلها دفناً بالتراب حسب ما ثبت للسلطات التحقيقية وحسب اعتراف المتهم حسين رشيد التكريتي الذي أقر إمام المحكمة أنه لو لم تكن تلك التقارير التي زعم أنها ترفع إليهم لما لجأوا الى حملات الأنفال.

ومن ثم حجز تلك الفتيات حصراً، اذ توجد أعداد غيرهن ممن وقع عليهن الاغتصاب إثناء الحجز كما روت بعض المشتكيات، بالإضافة الى استعمال المواد الكيمياوية مع عدد من المشتكيات اللواتي حضرن أمام المحكمة، وانتقاء عدد من الفتيات لأسباب يعرفها القائمين بتنفيذ تلك الجريمة حصراً، ومن ثم القيام إما بإرسالهن الى مصر للعمل في الملاهي كجليسات باعتبار إنهن لايجدن فن الخدمة وتقديم الوصلات الفنية، أو أخفاء أي اثر لهن والتعكز على حجة إرسالهن الى مصر لتلويث سمعة مصر، وبالتالي فأن تلك الفتيات لقين حتفهن، وهنا تتحقق العلاقة السببية بين الفعل والنتيجة وبالتالي تستكمل الجريمة لكافة أركانها، ويتم مساءلة المتهمين عن الفعل الذي حقق تلك النتائج، وكان المتهم صدام قد أقر صراحة أمام المحكمة أنه المسؤول الأول عن تلك القرارات والتصرفات التي تصدر في أيام سلطته.

وبالتالي فأن جريمة جديدة تصبح من أختصاص المحكمة الجنائية العراقية تتفرع عن جريمة الأنفال، وتقع ضمن الأختصاص المكاني والزماني المنصوص عليه في قانون العقوبات.